الصحة النفسية في قطاع الطيران- تحديات وحلول متزايدة
المؤلف: منيف الحربي08.26.2025

تُشكل الصحة النفسية تحديًا جسيمًا في عالم الطيران، يثير قلقًا متزايدًا لدى شركات الطيران والهيئات الرقابية، وحتى لدى الركاب أنفسهم.
الحادثة المؤسفة التي شهدتها الخطوط الجوية الهندية مؤخرًا، والتي تشير التحقيقات الأولية إلى أن قائد الطائرة ربما تعمد إسقاطها، أعادت إلى الأذهان مأساة مماثلة لطائرة "جيرمان وينغز" في عام 2015. حينها، انحرف مساعد الطيار بالطائرة نحو جبال الألب نتيجة معاناته من الاكتئاب الحاد، الأمر الذي أودى بحياة 150 شخصًا.
على إثر تلك الفاجعة، قدمت وكالة سلامة الطيران الأوروبية توصيات جادة، اشتملت على ضرورة وجود شخصين داخل قمرة القيادة في جميع الأوقات، ومراقبة الحالة النفسية لأطقم الطيران بشكل دوري، وتوفير برامج دعم مُحكمة تتيح للطيارين التعبير عن مخاوفهم ومشكلاتهم دون الخوف من فقدان وظائفهم.
قبل عقد من الزمن، أصدرت دار نشر جامعة الملك سعود كتابًا قيمًا بعنوان "علم نفس الطيران"، قام بترجمته الدكتور هشام العسلي، ويعتبر مرجعًا علميًا بالغ الأهمية في هذا المجال. ومؤخرًا، سُررت بالاطلاع على ورقة علمية للدكتور عبد الرحمن السلمان، تطرق فيها إلى التحديات النفسية المتفاقمة في صناعة الطيران، وأشار إلى أن ما يقرب من ربع حوادث الطيران (23%) خلال العقد الماضي مرتبطة بصورة مباشرة بعوامل نفسية، وذلك وفقًا لتقرير منظمة الطيران المدني الدولي لعام 2024.
تزخر الورقة العلمية بالإحصائيات والأبحاث الحديثة؛ ففي دراسة مشتركة طموحة أجراها الاتحاد الدولي للنقل الجوي بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية في عام 2024، والتي وُصفت بأنها أوسع مسح شامل في مجال الصحة النفسية للطيران، وشارك فيها 32,000 موظف من 42 دولة، كشفت الدراسة عن أزمة حقيقية؛ إذ تبين أن أكثر من نصف الطيارين (56%) يعانون من أعراض الاكتئاب السريري، وهي نسبة تتجاوز المعدل العام في المجتمعات (الذي يتراوح بين 8% و12%). كما أفاد 41% من الطيارين بأنهم يعانون من قلق الطيران، واعترف 14% منهم بوجود أفكار انتحارية تراودهم.
وفيما يتعلق بأطقم الضيافة الجوية، أظهرت الدراسة أن نسبة كبيرة منهم (63%) يعانون من الاكتئاب السريري، و52% يعانون من قلق الطيران، في حين بلغت نسبة من لديهم أفكار انتحارية 18%. وشملت الأعراض الشائعة الإرهاق العاطفي الشديد والتوتر العضلي المستمر.
لم يكن المراقبون الجويون بمنأى عن هذه المشكلات؛ إذ أظهرت النتائج أن قرابة نصفهم (48%) يعانون من الاكتئاب، و34% يعانون من قلق العمل، و9% تراودهم أفكار انتحارية. وشملت الأعراض التي يعانون منها نوبات الهلع المتكررة والأرق المزمن.
أما فنيو الصيانة، فهم يعانون من الإجهاد الشديد وأخطاء التركيز الناتجة عن ضغوط العمل وتأثيرات الضجيج المستمر.
الأمر الأكثر إثارة للقلق في نتائج الدراسة هو أن أكثر من ثلاثة أرباع العاملين في هذا القطاع (76%) يرفضون طلب المساعدة النفسية خوفًا من فقدان وظائفهم أو تراخيصهم المهنية، وهو ما يستدعي مراجعة شاملة لسياسات التقييم والدعم المتبعة.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى التجربة الكندية الرائدة من خلال برنامج "الأجنحة الصحية"، الذي أطلقته وزارة النقل في عام 2024، والذي يرتكز على ثلاث دعائم أساسية: الوقاية الاستباقية، والكشف المبكر، والعلاج الشامل.
يوفر البرنامج خطًا ساخنًا يعمل على مدار الساعة، ويديره أخصائيون نفسيون متخصصون في بيئة الطيران. كما يتيح عيادات متنقلة في المطارات الكبرى تقدم استشارات نفسية سريعة خلال فترات الراحة، مع وجود تشريع قانوني يمنع فصل الموظف أو سحب رخصته نتيجة طلب المساعدة النفسية.
لقد أثبتت التجربة نجاحًا ملحوظًا، حيث ارتفعت حالات الإبلاغ الذاتي عن الأعراض النفسية بنسبة كبيرة (300%)، وانخفضت الحوادث المرتبطة بالتوتر النفسي بنسبة 45%.
وفي الجانب التقني، طورت وكالة ناسا في عام 2024 نظامًا متطورًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل نبرة صوت المراقبين الجويين، ويستشعر التغيرات الطفيفة في سرعة الكلام ووضوح النطق ونبرة الصوت، وذلك بدقة تصل إلى 94%؛ بهدف رصد علامات القلق والتدخل المبكر لتقديم الدعم اللازم.
إن التوسع الهائل في قطاع الطيران، والزيادة المطردة في عدد الرحلات والمسافرين، يجب أن يقابله اهتمام مكافئ بالصحة النفسية للعاملين في هذا القطاع الحيوي. فسلامة الأجواء لا تتحقق فقط من خلال صيانة الطائرات أو تطوير الأنظمة التقنية، بل تبدأ بلا شك من سلامة الأشخاص العاملين، ومن قدرة المؤسسات على رعاية العنصر البشري قبل الاهتمام بالآلات والمعدات.
الحادثة المؤسفة التي شهدتها الخطوط الجوية الهندية مؤخرًا، والتي تشير التحقيقات الأولية إلى أن قائد الطائرة ربما تعمد إسقاطها، أعادت إلى الأذهان مأساة مماثلة لطائرة "جيرمان وينغز" في عام 2015. حينها، انحرف مساعد الطيار بالطائرة نحو جبال الألب نتيجة معاناته من الاكتئاب الحاد، الأمر الذي أودى بحياة 150 شخصًا.
على إثر تلك الفاجعة، قدمت وكالة سلامة الطيران الأوروبية توصيات جادة، اشتملت على ضرورة وجود شخصين داخل قمرة القيادة في جميع الأوقات، ومراقبة الحالة النفسية لأطقم الطيران بشكل دوري، وتوفير برامج دعم مُحكمة تتيح للطيارين التعبير عن مخاوفهم ومشكلاتهم دون الخوف من فقدان وظائفهم.
قبل عقد من الزمن، أصدرت دار نشر جامعة الملك سعود كتابًا قيمًا بعنوان "علم نفس الطيران"، قام بترجمته الدكتور هشام العسلي، ويعتبر مرجعًا علميًا بالغ الأهمية في هذا المجال. ومؤخرًا، سُررت بالاطلاع على ورقة علمية للدكتور عبد الرحمن السلمان، تطرق فيها إلى التحديات النفسية المتفاقمة في صناعة الطيران، وأشار إلى أن ما يقرب من ربع حوادث الطيران (23%) خلال العقد الماضي مرتبطة بصورة مباشرة بعوامل نفسية، وذلك وفقًا لتقرير منظمة الطيران المدني الدولي لعام 2024.
تزخر الورقة العلمية بالإحصائيات والأبحاث الحديثة؛ ففي دراسة مشتركة طموحة أجراها الاتحاد الدولي للنقل الجوي بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية في عام 2024، والتي وُصفت بأنها أوسع مسح شامل في مجال الصحة النفسية للطيران، وشارك فيها 32,000 موظف من 42 دولة، كشفت الدراسة عن أزمة حقيقية؛ إذ تبين أن أكثر من نصف الطيارين (56%) يعانون من أعراض الاكتئاب السريري، وهي نسبة تتجاوز المعدل العام في المجتمعات (الذي يتراوح بين 8% و12%). كما أفاد 41% من الطيارين بأنهم يعانون من قلق الطيران، واعترف 14% منهم بوجود أفكار انتحارية تراودهم.
وفيما يتعلق بأطقم الضيافة الجوية، أظهرت الدراسة أن نسبة كبيرة منهم (63%) يعانون من الاكتئاب السريري، و52% يعانون من قلق الطيران، في حين بلغت نسبة من لديهم أفكار انتحارية 18%. وشملت الأعراض الشائعة الإرهاق العاطفي الشديد والتوتر العضلي المستمر.
لم يكن المراقبون الجويون بمنأى عن هذه المشكلات؛ إذ أظهرت النتائج أن قرابة نصفهم (48%) يعانون من الاكتئاب، و34% يعانون من قلق العمل، و9% تراودهم أفكار انتحارية. وشملت الأعراض التي يعانون منها نوبات الهلع المتكررة والأرق المزمن.
أما فنيو الصيانة، فهم يعانون من الإجهاد الشديد وأخطاء التركيز الناتجة عن ضغوط العمل وتأثيرات الضجيج المستمر.
الأمر الأكثر إثارة للقلق في نتائج الدراسة هو أن أكثر من ثلاثة أرباع العاملين في هذا القطاع (76%) يرفضون طلب المساعدة النفسية خوفًا من فقدان وظائفهم أو تراخيصهم المهنية، وهو ما يستدعي مراجعة شاملة لسياسات التقييم والدعم المتبعة.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى التجربة الكندية الرائدة من خلال برنامج "الأجنحة الصحية"، الذي أطلقته وزارة النقل في عام 2024، والذي يرتكز على ثلاث دعائم أساسية: الوقاية الاستباقية، والكشف المبكر، والعلاج الشامل.
يوفر البرنامج خطًا ساخنًا يعمل على مدار الساعة، ويديره أخصائيون نفسيون متخصصون في بيئة الطيران. كما يتيح عيادات متنقلة في المطارات الكبرى تقدم استشارات نفسية سريعة خلال فترات الراحة، مع وجود تشريع قانوني يمنع فصل الموظف أو سحب رخصته نتيجة طلب المساعدة النفسية.
لقد أثبتت التجربة نجاحًا ملحوظًا، حيث ارتفعت حالات الإبلاغ الذاتي عن الأعراض النفسية بنسبة كبيرة (300%)، وانخفضت الحوادث المرتبطة بالتوتر النفسي بنسبة 45%.
وفي الجانب التقني، طورت وكالة ناسا في عام 2024 نظامًا متطورًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل نبرة صوت المراقبين الجويين، ويستشعر التغيرات الطفيفة في سرعة الكلام ووضوح النطق ونبرة الصوت، وذلك بدقة تصل إلى 94%؛ بهدف رصد علامات القلق والتدخل المبكر لتقديم الدعم اللازم.
إن التوسع الهائل في قطاع الطيران، والزيادة المطردة في عدد الرحلات والمسافرين، يجب أن يقابله اهتمام مكافئ بالصحة النفسية للعاملين في هذا القطاع الحيوي. فسلامة الأجواء لا تتحقق فقط من خلال صيانة الطائرات أو تطوير الأنظمة التقنية، بل تبدأ بلا شك من سلامة الأشخاص العاملين، ومن قدرة المؤسسات على رعاية العنصر البشري قبل الاهتمام بالآلات والمعدات.